حلقة تكوينية حول معوقات البحث العلمي وسبل تخطيها / جبري محمد

يواصل مركز جيل البحث العلمي حلقاته التكوينية والدورية في منهجية البحث العلمي في مقر الاتحاد العالمي للمؤسسات العلمية بالجزائر العاصمة، لطلاب الماستر – الماجستير والدكتوراه.

ولقد كان موضوع الحلقة الأخيرة يدور حول  معوقات البحث العلمي وسبل تخطيها، والتي ألقاها الدكتور جبري محمد- جامعة البليدة 2-

معوقات البحث العلمي وسبل تخطيها

الدكتور جبري محمد- جامعة البليدة 2-

     لاشك أن أهم عامل لتقدم الشعوب ورقيها هو تحصيل العلوم تحصيلا سليما متكاملا، فبالعلم وحده تذل الصعاب وتخرج الأمم من ظلمة الجهل والتخلف إلى نور المعرفة والتبصر والتقدم والتمدن، فيه تبنى الحضارات ويشيد العمران وتشفى الأسقام وتكشف أسرار الأكوان…

     ولعل إستقصاء وإستقرار محطات التاريخ تثبت حقيقة لاريب ولا شك فيها وهي أن الأمة التي كانت تملك قدرا من العلوم أنذاك هي التي كان لها الريادة والسيادة.

     وهذه الحقيقة ظاهرة جلية في عصرنا الحديث حيث أن الأمم التي تسجل وجودها وتعمل على أخذ الريادة في كل المجالات هي الأمم التي لها من العلم والمعارف باع معترف به،1 فصراع الوجود والسلطة والريادة بين الشعوب سلاحه العلم والمعرفة من خلال البحث الدؤوب الدائم والمستمر في مجالات العلوم المختلفة من رياضيات وفيزياء وكيمياء وطب وفلسفة وأدب فكل أنواع العلوم بإختلافها هي علوم تخدم الإنسانية وتذلل ما يواجهها من صعوبات على مستوايات مختلفة مادية ومعنوية.

    فالبحث العلمي إذن وسيلة محورية أساسية لأي أمة تريد التقدم والرقي، ولهذا فإنه من الضروري اليوم أن يعنى هذا المجال بما يجب أن يعنى به وأن يوضع في إطاره الصحيح ضمن نسقية عامة متمازجة لكنها متجانسة لإعطاء ثمارها وأكلها كل حين بإذن ربها.

    ومن أجل ذلك لابد من إذلال الصعوبات وإزالة العقبات التي يعاني منها البحث العلمي على مختلف مستوياته.

    جدير بالذكر أن البحث العلمي ليس بمنأى ولا معزل عن بيئته فهو يخلق منها ويعيش فيها، فإذا كانت هذه البيئة سليمة كان نمو وترعرع البحث العلمي سليما وبالتالي أعطى الثمار المرجوة منه والعكس صحيح، أي إذا كانت البيئة غير سليمة كان نمو البحث غير سليم أو موت هذا البحث العلمي وبالتالي إن عاش أو قاوم كانت ثماره عليلة رديئة ليست بذات جودة وإن مات البحث العلمي تقهقرت الأمة وضاعت في غيابات الجهل والظلام تتجاذبها أيادي الطامعين.

    فما هي الصعوبات والمعوقات التي يعاني منها البحث العلمي اليوم؟ وكيف السبيل لإعطاء دفع جديد له؟

    جدير بنا في هذه الورقة البحثية أن نقف على مفهوم ومدلول البحث العلمي حتى نفهم صلب موضوعها لأنه ببساطة هو تربة زرعنا.

    1- مفهوم البحث العلمي: البحث العلمي مصطلح مركب كما هو ظاهر من كلمتين البحث والعلمي، ما المقصود بالبحث وما المقصود بالعلمي في اللغة.

البحث في اللغة مصدر الفعل بحث وهو التتبع، وسأل، وتحرى وتقصى، وطلب1.

     وهو طلب الإنسان وتحريه وتقصيه لحقيقة من الحقائق التي يجهلها والبحث يتطلب التفكير والتأمل كوسائل للوصول إلى إدراك الحقائق.

    أما كلمة علمي مرجعها إلى العلم وهي المعرفة والدراية وإدراك الحقائق والعلم في طبيعته طريقة تفكير وبحث أكثر منها طائفة من القوانين الثابتة فهو منهج وطريقة وسبيل أكثر مما هو مادة وموضوع للبحث.

    فالعلم في منهجه يعني المعرفة المنسقة التي تنشأ من الملاحظة والتجريب، وأما في غايته فهو تحديد طبيعة وأصول الظواهر التي تخضع للملاحظة والدراسة ولا يمكن إطلاق مصطلح العلم على مادة معينة ما لم تتوفر الشروط التالية2.

– وجود طائفة متميزة من الظواهر يتخذها الباحث موضوعا للدراسة والبحث؛

– خضوع هذه المجموعة من الظواهر لمنهج علمي محدد؛

– الوصول إلى مجموعة من القوانين في ضوء ذلك المنهج العلمي.

    وعليه يمكن تعريف البحث العلمي على أنه حزمة من الطرائق والخطوات المنظمة والمتكاملة تستخدم في تحليل وفحص معلومات قديمة بهدف التوصل إلى نتائج جديدة وهذه الطرائق تختلف بإختلاف أهداف البحث العلمي ووظائفه وخصائصه وأساليبه.

     2- أهمية البحث العلمي: كما أسلفنا فإن للبحث العلمي أهمية كبرى في حياة الشعوب وتقدمها ورقيها بل في بقائها بل هو مؤشر دقيق لقياس تطور الدول ورقيها إذ هو الدعامة الرئيسية لإقتصاديات الدول وإدارتها وسياستها في السلم والحرب.

     فالبحث العلمي يساعد على إضافة معلومات جديدة وإجراء تعديلات لمعلومات سابقة بهدف إستمرار تطورها.

    كما أنه يصحح معلومات مغلوطة عن طريق ظواهر وأماكن وشخصيات وغيرها، ضف إلى ذلك أن البحث العلمي يذلل الصعوبات التي نواجهها سياسيا أو بيئيا أو إقتصاديا أو إجتماعيا أو في أي مجال من المجالات، كما يعمل على التنبؤ بشكل علمي عبر دراسة المؤشرات والمؤثرات على المستقبل والعمل على مواجهته قبل وقوعه فهو إذن مركب النجاة وظهر الأمان للتطور السريع والتغلب على أمواج المشاكل المتلاطمة بطريقة علمية سليمة.

     ولكي يلعب البحث العلمي هذا الدور الهام والأساسي لابد أن تذلل الصعاب ويتغلب على المعوقات التي تواجهه، فما هي هذه المعوقات؟

     معوقات البحث العلمي: يعيش البحث العلمي اليوم في أوطاننا حالة من الركود والتقهقر الكبير هذا وإن لم نقل حالة من الجمود الشديد في كل الميادين وعلى كل المستويات، ولهذا ينبغي أن نشير ونزيل ونشخص هذه العقبات والمعوقات حتى يتسنى لنا التعامل معها بكل يسر وبما يجب علينا القيام بها لتجاوزها.

      التحليل والتشخيص لمعوقات البحث العلمي في بلدنا يسمح لنا أن نقول أن هذه المعوقات على مستويين أساسيين: المستوى الأول المستوى الذاتي أي (الباحث نفسه) والمستوى الثاني المستوى الخارجي وهي البيئة والمحيط المؤثر على الباحث أي كل ما يأتي من مؤثرات خارجية عن ذات الباحث.

      وينبغي هنا أن نشير إلى أن هذه المستويات مؤثرة لبعضها على بعض لأنها تمثل حلقات ضمن نظام عام، هذه الحلقات تؤثر سلبا أو إيجابا على بعضها البعض.

     المعوقات الذاتية للبحث العلمي:

     – شخصية الباحث نفسه، فكلما كانت شخصية الباحث قوية كلما أمكنه التغلب على أي مؤثر داخلي أو خارجي يعيق بحثه أو عمله بشكل عام.

     – اللغة غني عن الذكر إذ أن إتقان الباحث للغة البحث أمر غاية في الأهمية للتعامل مع ذاتية البحث والقدرة على توصيل نتائجه إلى غيره.

   ضف إلى ذلك إتقان لغات أخرى وبالتحديد اللغة الحية للتواصل مع مختلف المنتوجات العلمية في ميدان البحث نفسه، فهو إذن رصيد شخصي ذاتي للباحث3.

      – إدراك الفارق بين موضوع الدراسة ومشكلة الدراسة والبحث وصياغة المشكلة غالبا ما تكون قضية محدودة الزمان والمكان والعلاقات والأثار، أما المشكلة البحثية فهو موضوع يحيط به الغموض أو ظاهرة تحتاج إلى تفسير أو قضية فيها خلاف أو شك يعمل الباحث على فك طلاسمها.

     – عدم تمكن الباحث من أليات البحث العلمي في مستوياته المختلفة وهي فهم واقع الظاهرة بدراسة مضمونها وصورها وأبعادها وعناصرها، ثم تفسير أسباب الظاهرة بالوقوف على الأسباب والعوامل والمتغيرات التي أدت إلى ظهورها وعلاقتها بظواهر أخرى، ثم محاولة تتبع إتجاهات الظاهرة وأثارها على ظواهر أخرى ثم التوصل إلى نتائج محددة بعد هذه الخطوات الثلاثة السابقة4.

      – عدم تمكن الباحث من الإستفادة أو إعمال وإختيار منهج علمي محدد أو في بعض الدراسات إعمال مناهج علمية محددة تتناسب مع موضوع البحث أو بالأحرى تناسب المشكلة البحثية وذلك بإعمال أدواته وخطواته بشكل سليم متناسق من بداية البحث إلى نهايته.

     – تسرع الباحث للوصول إلى النتائج ومن ثم إنهاء البحث نفسه، دون التأني وأخذ الوقت اللازم للملاحظة والتحقق من الفرضيات….

هذه بعض المعوقات الذاتية للبحث العلمي والتي لها أثر سلبي على البحث العلمي.

      المعوقات الخارجية للبحث العلمي: وهي المعوقات التي تؤثر على البحث العلمي من خارجه وأهم هذه المعوقات هي:

     – عدم وجود إستراتيجية واضحة المعالم محددة الأطراف عن طريق تحديد المهام والمسؤوليات أي الواجبات من جهة وحقوق هذه الأطراف من جهة أخرى، وبالتالي تحديد    هدف البحث العلمي بدقة وما ينتظر منه، والعمل بشكل دائم ومستمر في إستصحاب مسار البحث العلمي.

     – ضعف التعاون والتنسيق البحثي بين مختلف حلقات البحث العلمي إبتداءا من الباحث إلى مختلف الدوائر الأخرى على مستويات مختلفة وطنية ودولية5.

      – ضعف قاعدة المعلومات داخل الجامعات والمراكز والمختبرات والمؤسسات الإقتصادية وغير الإقتصادية وهي أي قاعدة المعلومات ضرورية جدا كمادة علمية ينطلق منها ويبنى عليها.

     – ضعف الإنفاق المالي على البحث العلمي سواءا من طرف الدولة أو من طرف القطاع الخاص أي عدم وجود مخصصات مالية معتبرة تساعد على تغطية نفقات البحث العلمي6.

  هذه أهم المعوقات الخارجية فيما أرى، فكيف السبيل إلى تخطيها؟

       سبل إذلال معوقات البحث العلمي وتخطيها:

      – الإهتمام بالباحث وتوفير المناخ المناسب  الذي يعمل على إستقرار نفسيته ودعمها؛      – العمل على تطوير الباحث من خلال دورات تدريبية داخل الوطن وخارجه تسمح له بالإحتكاك بنظرائه والإستفادة من تجاربهم؛

      – العمل على توليد الثقة والقناعة بأن البحث العلمي جزء من حياتنا يحقق أمن شعوبنا ويدعم سيادتنا وبدونه نبقى دول متخلفة؛

      – ربط مشاريع الأبحاث العلمية بأهداف المجتمع والقضايا المختلفة له لحل مشاكله بشكل علمي دقيق وليس مجرد أبحاث ترقيعية آنية لا جدوى منها؛

     – رصد الأموال اللازمة بشكل متصاعد بما يضمن إستمرارية ونوعية البحث والباحث قصد تشجيع الإبداع وعودة التميز والإحترافية في التعاطي مع الظواهر7؛ – العمل على إيجاد إطار وخطة إستراتيجية واضحة على مستوى متوسط وبعيد المدى ضمن شروط صارمة علمية وإدارية عبر مستويات مختلفة قاعدية وعليا بإشراك كل الفعاليات اللازمة عمومية وخاصة، فردية وجماعية.

       نعود ونقول أن البحث العلمي عصب التطور والإزدهار والرقي إلى مصاف الدول المتقدمة لتبوء مكانة حضارية مرموقة ضمن مسار تاريخي للأمم في مسيرة البشرية إلى قيام الساعة.

الهوامش:

1- إبن منظور، لسان العرب، مجلد 15 ط1 د.ت، ج2، ص 114.

2- محمد مسعد ياقوت، البحث العلمي العربي، معوقات وتحديات، مؤسسة منار العلمية للدراسات والبحوث الصحية، بحث منشور على الأنترنت، msehsr1.tripod.com

3- محمد رضا محرم، تعريب التكنولوجيا، مجلة المستقبل العربي، العدد 61، مارس 1984.

4- محمد زيان عمر، البحث العلمي مناهجه وتقنياته، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2002، ص 60.

5- علي عبد القادر، معوقات البحث العلمي، منشور على الأنترنت، الأربعاء 28 أوت 2013 على الساعة 21:52،wwwalyaen.com.

6- طه النعيمي، البحث العلمي والتنمية المستدامة في الوطن العربي، مجلة أبحاث البيئة والتنمية المستدامة، مجلد1، عدد صفر 1997، ص 60 وما بعدها.

7- محمد مسعد ياقوت، مرجع سابق.

Share this:

Bookmark the permalink.

Comments are closed.