أقام مركز جيل البحث العلمي بإشراف رئيسته أ.د. سرور طالبي أمسية السبت 6 شباط 2021 لقاءً ثانيا من حلقات النقاش عبر الإنترنيت في المنهجيّة لاستكمال محاضرة عضو مجلس العلماء في الاتحاد الأستاذة الدكتورة بشرى إسماعيل أحمد أرنوط تحت عنوان “البحث العلمي بين الوضعيّة والبنائيّة والبراجماتيّة”، بحضور أساتذة وطلاب الدراسات العليا في مختلف الجامعات العربية، الجزائر، لبنان ومصر. (أنقر هنا للاطلاع على المحاضرة الأولى)
افتتحت الأستاذة سرور اللقاء بالترحيب بالأستاذة بشرى وبالحضور الذي تميّز بحماسه لهذا النوع من اللقاءات، حيث أكدت لهم بأن المركز سيستجيب لرغبة طلاب الدراسات العليا بتكثيف المحاضرات من أجل تخريج جيل متمكّن في منهجيّة البحث العلمي، ومدّ يد العون لكل طالب علم يرغب بتطوير ذاته علميّاً، كما سيسعى المركز من خلال هذه اللقاءات إلى فسح المجال أمام طلبة الجامعات وخاصة الدراسات العليا والدكتوراه للتعرّف والإستفادة من خبرات ثلّة من المتميّزين والمبدعين في العمليّة التعليميّة، وأصحاب ألقاب ومراكز علميّة مرموقة على مساحة الوطن العربي.
بعدها استعرضت أ. بشرى بشكل سريع عناوين اللقاء الماضي، الذي كان عن البحوث الكميّة والتجريبيّة فلسفتها خصائصها واستراتيجيتها ثم انتقلت إلى الشق الثاني من المحاضرة الذي تناولت فيه البحث النوعي والبحث المختلط.
أولاً، بدأت أ. بشرى بلمحة تاريخية عن بدايات البحث النوعي وأكّدت أنّه قديم جداً وجديد جداً، فبداياته كانت مع عالم النفس فرويد الذي إعتمد في دراساته على الملاحظة ودراسة الحالة وغيرها من الإجراءات التي تُعتمد في البحث النوعي، كما أنّ الباحثين قديماً كانوا يستخدمون البحث النوعي دون إعتماده كمنهجيّة، وفي أوائل القرن العشرين كانوا يرفضون الفكرة الوضعيّة في البحث العلمي، فبدأ يظهر نموذج بحثي نوعي للظواهر الإجتماعيّة وذلك لكون الظاهرة الإجتماعيّة متفرّدة، ثمّ في القرن العشرين ظهر بهذا المسمّى “البحث النوعي” تأكيداً على أنّ الظاهرة مرتبطة بالسياق الإجتماعي.
وعرّفت أ. بشرى البحث النوعي أنّه: ” ذلك النوع من البحوث الذي يعتمد فيه الباحث على آراء أفراد العيّنة، حيث يوجّه لهم أسئلة عريضة عامّة غير متحيّزة، ويجمع بيانات تتكوّن في معظمها من الكلمات أو النصوص التي جمعها من المشاركين، ثمّ يحلّل هذه الكلمات والنصوص بناءً على معايير معيّنة ليستمدّ منها الإجابة على أسئلته”، فالبحث النوعي لا يهدف إلى التعميم بل إلى الفهم المتعمّق للظاهرة.
وشرحت أ. بشرى الفلسفة التي يقوم عليها البحث النوعي وهي: “الفلسفة البنائيّة الإجتماعيّة أو التفسيريّة” التي ترى أنّ الحقائق مرتبطة بالسياق الذي حدثت فيه، فهي ذاتيّة مرتبطة بالواقع، فالحقائق وفق هذه الفلسفة ليست مستقلّة عن الوعي الإنساني بل مرتبطة به أي حقيقة تفتقد للموضوعيّة، وقد أثّرت هذه الفلسفة على البحث النوعي بشكل عام، فالعنصر الأساسي للبحوث النوعيّة هو النظر للظاهرة الإجتماعيّة بشكل مختلف عن الظاهرة الطبيعيّة، كما أنّ أدواته نوعيّة وهي: المقابلة، الملاحظة، تحليل الخطابات تسجيلات الوثائق… فهو يعتمد على جمع بيانات غير منظّمة وليست أرقام، تأخذ شكل ملاحظات في الأماكن الطبيعيّة لحصول الظاهرة.
وعدّدت أ. بشرى خصائص البحث النوعي وهي:
- ينطلق البحث النوعي من حقيقة أنّ دراسة الظواهر الإنسانيّة تختلف عن دراسة الظواهر في العلوم الطبيعيّة والفيزيائيّة، لذا فإنّها تحتاج إلى طرق بحث مختلفة، يكون التركيز فيها على فهم السلوك الإجتماعي والإنساني من منظور داخلي.
- كذلك ينطلق البحث والإستقصاء النوعي من كون أنّ التعميمات من الحالة المبحوثة إلى حالات مشابهة أخرى، تقود إلى نظريّات ثابتة وعبر المكان والزمان، تكون غير سليمة لأنّ السلوك الإنساني مرتبط بمضامين إجتماعيّة وثقافيّة وتاريخيّة.
- يبدأ البحث النوعي بتصميم خطّة مرنة لا تقيّده حرفيّاً، بل قد يطوّر ويغيّر في خطّة البحث في ضوء التطوّرات والمتغيّرات التي يحصل عليها، فلا يحدّد الباحث حجم العيّنة مثلاً أو طبيعة أفرادها بشكل مسبق، لأنّ المعلومات التي سيحصل عليها كثيراً ما تقوده إلى أفراد آخرين، من خارج أفراد العيّنة التي يفكّر فيها.
- تعرض تقارير البحوث النوعيّة باللغة الطبيعيّة وبأسلوب وصفي إنشائي سردي، فلا يوجد لا جداول ولا أرقام.
وطرحت أ. بشرى تساؤلين أساسيّين هما:
– السؤال الأول: أسباب إعتماد البحث النوعي؟
– السؤال الثاني: لماذا ومتى يجب إستخدام البحث النوعي؟
لتأتي إجاباتها التالية: يجب إعتماد البحث النوعي لأنّ هناك أزمة منهجيّة إنتشرت في الآونة الأخيرة، ولأنّ الفرق بين الظاهرة الطبيعيّة والظاهرة الإجتماعيّة أدّى إلى ضرورة وجود البحث النوعي، أمّا متى ولماذا يجب إستخدام البحث النوعي فيكون ذلك في الحالتين التاليتين:
الحالة الأولى: في حال كانت الدراسة جديدة ولا يوجد دراسات سابقة عنها، والمعلومات قليلة جداً.
الحالة الثانية: في حال وجود دراسات كثيرة وآراء كثيرة من العيّنات، فهنا يأتي البحث النوعي للتعمّق أكثر وفهم أسباب هذه الظاهرة.
بالنسبة لإستراتيجيّات وطرائق وتصميمات البحث النوعي ركّزت أ. بشرى عليها باعتبارها نوعيّة ويجب أن تنطلق من أهداف البحث، والفلسفة التي يتبنّاها الباحث بالإضافة إلى صفات الباحث الشخصيّة والتي تعتبر أساسيّة لنجاح البحث النوعي، فكل باحث يجب أن يسأل نفسه هذه الأسئلة الثلاث:
- ما هي أهداف بحثي؟
- الفلسفة التي أتبنّاها؟
- ما هي سمات شخصيّتي؟
إنطلاقاً من هذه التساؤلات وبعد الإجابة عليها يجب أن يسعى الباحث لربط هذه الصفات مع بعضها ليحصل على النتائج النوعيّة التي يتمنّاها.
وقسمت طرائق وتصميمات البحث النوعي إلى 5 أنواع:
- البحث الإسموجرافي
- البحث القصصي
- بحث النظريّة المجذّرة
- البحث التاريخي
- البحث الفينومنولوجي
البحث الإسموجرافي: نلجأ إلى هذا النوع من البحوث عندما نريد دراسة ثقافة مجموعة من الأفراد، أو جماعة معيّنة أو ثقافة مؤسّسة …، فهذا النوع هو الأنسب لدراسة الفكر أو المعتقد، والسلوك واللغة، ولكن بشرط أن تكون هذه المجموعة قد عاشوا معاً لفترة زمنيّة طويلة لتتكوّن بينهم أنماط مشتركة فكر وسلوك مشترك وطبعاً لغة مشتركة، وآداته الأساسيّة هي الملاحظة، ومع التطور التكنولوجي الحالي الهائل ظهر البحث الإسموجرافي الإفتراضي.
البحث التاريخي: يدرس ظاهرة حدثت في الماضي وتأثيرها حاصل على الأحداث الحاليّة، يتميّز باعتماده على المصادر الأوليّة، كالمخطوطات، البيانات المؤرشفة… أمّا اعتماده على المعلومات الثانوية أقل منها.
البحث القصصي: يتميّز بشكل أدبي، واليوم تنظّم مؤتمرات عن الدراسات القصصيّة وذلك لأهميّتها، ويجب أن تكون الدراسة على مجموعة أفراد لديهم رغبة في رواية قصصيّة عن أنفسهم، وأحد أدواته المقابلة.
تصميم النظريّة المجذّرة: تستخدم في دراسات العلوم الإجتماعيّة، وهو أكثر التصاميم أهميّة ويهدف إلى بناء وتطوير النظريّات القائمة والموجودة، وبناء نظريّة من البيانات التي تمّ جمعها من أفراد العيّنةـ، وعند التحليل نجد أنّ مفاهيم النظريّة تنبثق أثناء عمليّة التحليل بهدف إكتشاف نظريّات جديدة، فهو نهج بحثي إستخدم طريقة الإستقراء لصنع نظريّة، وأبرز من أسّس لهذه النظريّة كل من العالِمين جلاسر وستراوس عندما قاموا بدراسة لحالة المرضى الذين علموا بقرب موتهم، فدرسوا إنعكاسات الخبر عليهم كما درسوا تأثير هذه المعرفة على موتهم، فاكتشفوا هذه النظريّة، وشرحوا هذه النظريّة في كتاب، وتميّزت هذه النظريّة ب 3 تصميمات هي:
- التصميم المنتظم
- التصميم المنبثق
- تصميم الطريقة البنائيّة
تصميم البحث الفنومنولوجي: هذا النوع هو لدراسة الظواهر الإجتماعيّة والإنسانيّة، وتُدرس الظواهر بإلقاء النظر عليها وكيف ينظر إليها الأفراد وإستخراج المعايير من وجهة نظر العيّنة، والباحث في هذا النوع من البحوث يعدّ فرد من أفراد هذا البحث، وأدواته مقابلات، مناقشات وإستخدام طريقة إستقراء، ومن عيوبه أنّه يأخذ وقت طويل في تحليل البيانات فهو يأخذ وقت أطول من البحوث الأخرى.
وتابعت أ. بشرى شرحها للبحث النوعي حيث ذكرت أنّ هذا البحث النوعي يتميّز بالذاتيّة عكس البحث الكميّ، لذلك عارضه العديد من الباحثين مشكّكين بالصدق والثبات في هذا النوع من البحوث، فما كان من المدافعين عنه إلّا أن وضعوا نقاط تضمن للباحث في حال إتّبعها الصدق والثبات في بحثه النوعي وهي:
1- يجب على الباحث أن يتحلّى بالموضوعيّة والبعد عن التحيّز وعن الأهواء.
2- يجب على الباحث أن يجمع بياناته بأكثر من آداة مثلاً ملاحظة ومقابلة…
أمّا ماكسويل فقد وضع نقاط وحلول لتحقيق المصداقيّة والثبات فلا بدّ للباحث أن:
– يشارك أفراد العيّنة لفترة طويلة.
– القيام بتجميع بيانات مكثّفة.
– القيام بتجميع بيانات غنيّة.
– التحقّق من صحّة المستجيب (أي عرض النتائج على المبحوثين ورصد ردود فعلهم).
– إتّباع إستراتيجيّة التقاطع الثلاثي أي البحث عن الأدلّة المتناقضة.
– المقارنة المستمرّة.
وقد تمّ تقسيم الصدق في البحوث النوعيّة إلى 5أنواع:
- الصدق الوصفي: يتحقّق عن طريق الملاحظة بالمشاركة، أي إشتراك أكثر من باحث بالملاحظة وجمع النتائج وتحليلها.
- الصدق التأويلي: ويقصد به إلى أي مدى يمكن تأويل وفهم أقوال المبحوثين، إستراتيجيّة رصد ردود الفعل البعديّة للمبحوثين، وجعل المبحوثين يقرأون النتائج ودراسة ردود فعلهم.
- الصدق النظري: المعقولية النظريّة للنتائج، هل هناك نظريّة تحدّثت عنها من قبل.
- الصدق التقييمي: تطبيق تقييم على النتائج، وهل النتائج قابلة للتعميم، وهنا القارئ هو من يقوم بهذه العمليّة وليس الباحث.
- الصدق التاريخي: وهو صدق روايات المشاركين في البحث.
وختمت أ. بشرى شرحها للبحث الكمي والبحث النوعي بحقيقة أنّ البحوث الكميّة والبحوث النوعيّة لا تقع على طرفين متناقضين، بل يجب النظر إليهما باعتبارهما نهايتين مختلفتين على متصّل واحد، ويجب النظر إلى الكمي والنوعي أنّهما متكاملين وليسوا متناقضين، فهناك دراسة يمكن أن تكون نوعيّة أكثر منها كميّة، وهناك دراسة يمكن أن تكون كميّة أكثر منها نوعيّة، ومن هذه الإشكاليّة إنتقلت أ. بشرى للتحدّث عن البحث المختلط الذي ظهر رداً على هذه الإشكاليّة، وقد كان العديد من الباحثين يخلطون بين الأساليب الكميّة والنوعيّة لسنوات دون قصد، فهو كان موجود دون أن تتمّ تسميته إلى أن ظهرت الحاجة لوجود هذا المنطلق البحثي الجديد، والذي له عدّة تسميات: البحث المزجي، البحث الهجين، البحوث المتكاملة/ المدمجة، البحث متعدّد الأساليب.
واصلت أ. بشرى شرح البحوث المختلطة بالتسلسل التالي، حيث قدّمت عروض عن كل من خصائص، إجراءات، إستراتيجيّات وتصاميم البحوث المختلطة، وهي التالية:
خصائص البحوث المختلطة
- إستخدام البيانات النوعيّة والبيانات الكميّة (مقاييس ومقابلة وملاحظة وصور وغيرها..) بشكل متزامن ومتتابع.
- توسيع الفهم من الطريقة الكميّة إلى الطريقة النوعيّة.
إجراءات البحوث المختلطة
هناك 3 أنواع من الإجراءات
- تتابعيّة
- متزامنة
- تحوليّة
وقد نتج عن هذه الإجراءات أربع إستراتيجيّات لتصاميم البحث المختلط هي:
- التصميم التفسيري المتسلسل: جمع وتحليل البيانات الكميّة أولاً، ثمّ جمع وتحليل البيانات النوعيّة.
- التصميم الإستكشافي المتسلسل: عكس التصميم السابق يكون بالإنطلاق من جمع وتحليل البيانات النوعيّة أولاً ثمّ جمع وتحليل البيانات الكميّة.
- تصميم التثليث المنزامن: يتمّ فيه جمع وتحليل البيانات النوعيّة وجمع وتحليل البيانات الكميّة معاً في ذات الوقت، والغرض هو التحقّق من صحّة النتائج، والتغلّب على ضعف إستخدام أحد الأساليب الكميّ أو النوعي منفرداً.
- التصميم المتضمّن المتزامن: يتمّ في جمع وتحليل بيانات نوعيّة وكميّة بشكل متداخل مع إعطاء أولويّة للأساليب الكميّة أكثر من النوعيّة أو العكس أي إعطاء أولويّة لأحدهما على الآخر بناءً على أهداف وأسئلة البحث.
ختمت أ. بشرى الشرح بعرض نماذج عن بحوث نوعيّة قامت بإجرائها وبحث لطالباتها، أضاءت خلال هذا العرض على نقاط معيّنة تميّز البحوث النوعيّة عن غيرها من البحوث.
وفُتح المجال أمام الباحثين لطرح تساؤلاتهم، حيث ظهر إهتمام واضح عند الباحثين بهذا النوع من البحوث نظراً لقلّته وضعفه في الدول العربيّة، فتمحورت الأسئلة عن أبحاث سابقة أجراها الطلبة الباحثين شكّوا أنّها قد تكون دراسات مختلطة كونهم إعتمدوا فيها تحليل المحتوى وتحليل إستبانات، فكانت إجابة أ. بشرى أن البحث المختلط يجب أن يتضمّن تحليل نوعي وترميز، كما أنّ البحث المختلط يجب أن يجمع في تساؤلات البحث بين الأسئلة الكميّة والأسئلة النوعيّة.
كما تمّ الإستفسار عن حدود البحث ضمن منهجية البحث العلمي، والتي ظهرت في النماذج التي عرضتها أ. بشرى في نهاية محاضرتها والتي كانت مقسّمة على الشكل التالي: حدود موضوعيّة – حدود بشريّة – حدود مكانيّة – حدود زمانيّة، وقد أوضحّت أ. بشرى أنّ هذه هي المنهجيّة الصحيحة للبحث العلمي وغياب أحدها يعتبر من الأخطاء الشائعة في البحث العلمي، وتحت مسمّى الأخطاء الشائعة كانت إجابة سؤال أيضاً عن أنّ أهميّة البحث العلمي الذي تندرج ضمنها: أهميّة نظريّة (لناحية موضوع البحث وحداثته وفتح آفاق جديدة)، وأهميّة تطبيقيّة (وهنا نذكر مدى إفادته لذوي العلاقة لناحية تطبيق النتائج).
وفي ختام الندوة شكرت رئيسة المركز الأستاذة سرور، الأستاذة بشرى أرنوط على هذه المحاضرات التفصيلية القيمة التي لخصت فيها مفاهيم نظرية كثيرة وأرفقتها بشروحات عملية مبسطة لمناهج البحث العلمي مؤكدة على أهم النقاط التي جاءت فيها، كما دعت الأستاذة بشرى لإلقاء محاضرات أخرى سيتم الاتفاق على مضمونها وتواريخها لاحقا.
(تقرير هبة عبد القادر الرطل)